"الأزمات تكشف معادن الرجال وتصنعهم" كما قال القدماء، وفي مصر أصبحت الأزمات كاشفة للوزراء، ومعرية لضعفهم وعدم قدرتهم على مواجهة الرأي العام؛ حيث أصبح معتادًا أن تجد وزيرًا ما في حكومة الدكتور نظيف، وقد غادر مصر في وقتٍ كان يتطلب وجوده لوجود أزمة داخل وزارته، إلا أنه يفضِّل الابتعاد وعدم المواجهة، مكتفيًا بإصدار القرارات التي لا تعدو كونها لرفع الحرج، بل وقد تكون هي نفسها أزمةً حقيقيةً.
ولهروب الوزراء أشكال أخرى؛ حيث أصبحت القرارات الوزارية العقيمة وغير المدروسة والبعيدة عن العلمية؛ هي عنوان حكومة الدكتور نظيف.
|
د. هاني هلال |
نموذج الهروب الأول؛ الحالة الأبرز لها هو الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي والبحث العلمي الذي فاجأ الجميع بوجوده في باريس؛ قبيل انطلاق العام الدراسي بأيام قليلة، وعدم وجود خطة واضحة لمواجهة انتشار إنفلونزا الخنازير داخل الجامعات، واكتفى بالسفر إلى باريس ليحضر اجتماعات منظمة اليونسكو الخاصة بانتخاب الأمين العام الجديد للمنظمة.
أما أشكال الهروب الأخرى؛ فمثلها وزير الصحة الذي أكد أنه أخذ الاحتياطات الكافية واللازمة لمرض إنفلونزا الخنازير مع دخول العام الدراسي؛ ليفاجئ الجميع مع بدء الدراسة بالفاجعة في الاستعدادات والاحتياطات، بل وبلغ الأمر أن يتم منع الوزير نفسه من دخول بعض المدارس ليراقب صحة الطلاب.
فيما لم تسلم وزارة النقل من التنصل من المسئوليات والمهام؛ حيث اختفى وزير النقل محمد منصور عن الأنظار في عز أزمة النقل الداخلي؛ خاصةً بالقاهرة، كما لم يكشف بعد عن أية احتياطات تلتزم بها وسائل النقل كالمترو لتجنب وباء إنفلونزا الخنازير؛ ولكنه ظهر منذ عدة أيام، حينما توجَّه لافتتاح أعمال التطوير بمحطتي مترو أنفاق السيدة زينب وماري جرجس.
وكذلك كان حال محمد نصر علام وزير الموارد المائية، فلم يره أحد مطلقًا في أزمة ري المحاصيل بالمجاري ومياه الصرف الصحي، وكأن الوزارة أصبح لا وجودَ لها على خريطة وزارات مصر المحروسة، كذلك وزير الخارجية الذي يتعامل مع القضايا المحيطة بمصر وكأننا في قارة أخرى، وأن السودان ليست جارتنا، أو أن استقرار اليمن ليس مهمًّا لأمننا القومي، أو أن حماية المسجد الأقصى ليس من ضمن أولوياتنا، وكذلك الحال في لبنان وسوريا والعراق، أما وزير البيئة فربما لم يسمع أو يشاهد أو حتى يشم رائحة السحابة السوداء التي تغطي مصر منذ ما يقرب من 10 سنوات، ومعه وزير التنمية المحلية الذي لم يسر في شوارع محافظات القاهرة والجيزة و6 أكتوبر وحلوان والإسكندرية والقليوبية؛ ليشاهد أكوام القمامة التي تملأ الشوارع والطرقات.
غياب الوزراء؛ خاصةً وقت الأزمات، فجَّر العديد من التساؤلات حول حقيقة مهمتهم؟ وهل هي لخدمة الجمهور أم لتسهيل مصالح رجال الأعمال؟ هذا ما طرحناه في هذا التحقيق:
وزارات مغيبة
|
د. عبد الجليل مصطفى |
يؤكد الدكتور عبد الجليل مصطفى (أستاذ الطب بجامعة القاهرة وعضو حركة 9 مارس) أن غياب الوزراء عن الوزارات، إما بالسفر، أو بالتخلي عن أداء مهامهم المطلوبة إزاء مختلف الأزمات؛ أصبح أمرًا مستفزًّا وغير مقبول، فلا نجد حلاًّ لأي مشكلة ولا تدبيرًا لأي أزمة، وكأن الوزارات أصبحت خاويةً، يديرها بعض الموظفين، ليسوا هم راسمي سياسات ولا واضعي حلول، بل هم مجرد أفراد تُملى عليهم سياسات عليا ممن فوقهم.
ويشير إلى أن مصر عصفت بها العديد من الأزمات بدءًا من المجاري ومرورًا بالقمامة والصرف الصحي والقمح المستورد ذي البذور المسمومة، وصولاً بأزمة إنفلونزا الخنازير التي جاءت، وكشفت عن أداء مترهل للوزارات المصرية؛ ولعل سفر وزير التعليم العالي دكتور هاني هلال إلى باريس بمبرر واهٍ، لم يكن مؤثرًا في أداء الوزارة؛ لأن وجوده في الأساس بلا سفر لم يجلب نفعًا أو يحل أزمة؛ لذا نجد أن حال الجامعات والبحث العلمي أصبح سيئًا للغاية، وليس الأمر بأفضل منه عند بقية الوزارات التي باتت تعاني من شيخوخة مبكرة، ولا يقومها أحد من المسئولين.
وبلهجة يشوبها التشاؤم من الأداء الحكومي في حل ومتابعة الأزمات المتكررة؛ حث د. عبد الجليل على ضرورة أن يتخلى هؤلاء الوزراء عن مهامهم، ويتركون الكراسي لمن هم أفضل منهم؛ لأن الوضع أصبح سلبيًّا وقاتمًا للغاية، ولا بد من محاسبة الوزراء والمسئولين الذين يتخلون عن مسئولياتهم، ولا نراهم سوى في اللقاءات التليفزيونية من حينٍ لآخر.
إقالة المقصرين
|
علي لبن |
ويرى علي لبن (عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين) أنه لا مناص من أن يتم إقالة أي وزير لا يقوم بأداء مهامه ومسئولياته على الوجه الأكمل، موضحًا أن الوزارات باتت عزبًا وليست هيئات صانعة قرارات؛ ما يترتب على ذلك فشل ذريع وتخبط في القرارات التي هي بالأساس تدير نظام البلاد.
وأضاف لبن أن الوزراء أصبحوا منفصلين عن الشعب، وباتوا لا يقدمون أي خدمة ملموسة لمجتمعاتهم؛ ولعل حال الوزارات المصرية في الفشل أصبح واحدًا، ولم يختلف كثيرًا فيما بينهم، في ظل مشاهدة تعاملهم مع المشكلات المتعلقة بوزاراتهم.
هرج حكومي
|
د. مجدي قرقر |
ويصف الدكتور مجدي قرقر (الأمين العام المساعد لحزب العمل) تخلي المسئولين والوزراء عن أداء مهامهم ومسئولياتهم؛ "بهرج حكومي"، لا بد من التصدي له، خاصةً في ظلِّ تكرار وتوالي الأزمات والكوارث.
وفيما يتعلَّق بأداء الوزارات المعنية بأزمة إنفلونزا الخنازير؛ فنَّد د. قرقر الإجراءات التي تشدقت بها الوزارات قائلاً: "لم تفعل الحكومة أي إجراءات فعلية تساعد على الحد من انتشار فيروس إنفلونزا الخنازير؛ فالمدارس والجامعات والشوارع غير مهيئة، بل يصل الأمر لأبعد من ذلك، وهو أن دائمًا ما نجد تضاربًا في التصريحات بين المسئولين؛ ما يزيد الصورة قتامة عما هي عليه".
كلام عشوائي
"ولا خطط ولا مصداقية... هناك ارتباك وخطط غير واقعية" كانت تلك أولى الكلمات التي بدأت بها دكتورة كريمة الحفناوي الناشطة بـ"حركة كفاية"، بشأن الأداء الوزاري، في ظل توالي وتكرار الأزمات، مشيرةً إلى أن الوزارات أصبحت منابر للأحاديث واللقاءات، ولا مجال للتطبيق على أرض الواقع، مؤكدةً أن ثمة هوة ساحقة بين القول والفعل، وكأن الخطط تُكتب وتُملى فقط على الورق بشكلٍٍ مبهر؛ ولكن لا أثر لذلك الإبهار على أرض الواقع.
وفنَّدت د. كريمة أحوال القطاعات المختلفة، مبرزةً أن قطاع التعليم والصحة يعانيان من نقص شديد في الخدمات، ولا توفر لهم الوزارة أي ميزانية، فخلال الثلاثين عامًا الماضية لم يتم تجديد وضع وحال أي وزارة، ولم نجد إحلالاً لسياسية قديمة بسياسة جديدة تحسن أوضاعنا، وكأن ملايين الأموال من الميزانية التي توضع للوزارات لا وجودَ لها، موضحةً أن ما يحدث في مصر أصبح يجسد سياسة عشوائية متخبطة، ولكن السياسة الوحيدة المؤكدة هي أن الشعب المصري أصبح رخيص القيمة؛ فالكوارث والفساد والإهمال أصبح لا يُعد، والوزراء لا نراهم سوى في اللقاءات التليفزيونية.
وتساءلت الحفناوي عن خطط وزارة الصحة في تدريب الأطباء على التعامل مع أزمة إنفلونزا الخنازير, وأين دور وزارة التعليم من تدريب المعلمين والطلاب بالمدارس الذين أصبح حالهم سيئًا ومؤسفًا للغاية، وأين دور وزارة الثقافة في نقل ثقافة التعامل مع الكوارث والأزمات؟!!
الوزارات= صفر
|
حسين عبد الرازق |
وعن تقييم أداء الوزارات؛ يؤكد حسين عبد الرازق (أمين التثقيف بحزب التجمع) أن أداءها يساوي صفرًا من المائة مثل صفر المونديال، مشيرًا إلى أن الوزارات باتت في وادٍ والأزمات والمشكلات في وادٍ آخر، موضحًا أن مسألة تخلي عدد كبير من الوزراء عن أداء مسئولياتهم؛ يكشف عن وجود ظاهرة في المجتمع المصري مرتبطة في الأساس بهيمنة حزب واحد على السلطة منذ أكثر من 33 عامًا، وهو الحزب الوطني، وحال الوزراء الحالي يؤكد للجميع أنهم لا يمكن إدانتهم أو مساءلتهم أو معاقبتهم، فهم مدركون أنهم فوق المحاسبة، ما ترتب عليه أنهم أصبحوا غير مكترثين بقضايا الشعب أو انتقاداته لأدائهم.
وألمح في نهاية كلامه أن الحل يكمن في تغيير ذلك النظام السياسي بأكمله؛ حتى تتوافر لنا فرص مساءلة الوزارات ومعاقبتها على تقصيرها إزاء مختلف الأزمات الذي يشهدها المجتمع والشارع المصري بمختلف فئاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق