ينتشر في بلعوطيا الفساد واحتكار السلع، بدءًا من أكياس الدم الملوثة وانتهاءً بحديد التسليح والعبَّارات والبنوك والمصانع، وإذا تطاول أحد الرعية وسأل عن دور حكومة بلعوطيا في محاربة الفساد واللصوص والمحتكرين، سمع السمفونيات البلعوطية التي تنافس سمفونيات بتهوفن؛ تلك التي تتغنى بالجهود البلعوطية الجبَّارة، وتذكر السادة المواطنين أن الفساد ليس حكرًا على بلعوطيا وحدها، ولكنه ينتشر في جميع بلاد وحكومات وإمارات وممالك الدنيا، وبالمقارنة بما يحدث في دول العالم فإن بلعوطيا تعتبر أفضل من غيرها، وعلى سكانها أن يشكروا ربهم على ما هم فيه من أمنٍ وأمان، ورفاهية ورخاء، لا يقلل من سعادتهم عدم توفر الدقيق المسرطن والمسوس، أو تضخم ثروات اللصوص والمحتكرين؛ فالأرزاق بيد الله سبحانه يوزعها حيث يشاء، وليس لنا أن نعترض أو نتذمر!
ولا يمكننا المقارنة البلعوطية لما يحدث اليوم، مع ما حدث في عهد المكتفي بالله؛ لأنه يكفي أن تنعم بلعوطيا اليوم بالديمقراطية والحياة الحزبية والتعددية والشفافية وسيد قراره...إلخ
أما ما حدث قديمًا فيرويه الحسين بن الحسن بن أحمد بن يحيى الواثقي قال:
كان جدي يتقلد شرطة بغداد للمكتفي بالله؛ فعمل اللصوص في أيامه عملةً عظيمةً، فاجتمع التجار وتظلَّموا إلى المكتفي بالله، فألزمه بإحضار اللصوص أو غرامة المال!
فتحيَّر حتى كان يركب وحده ويطوف بالليل والنهار إلى أن اجتاز يومًا في نصف النهار في زقاقٍ خالٍ في بعض أطراف بغداد؛ فدخله فوجد فيه منكرًا ووجد فيه زقاقًا لا ينفذ؛ فدخله فرأى على بعض أبواب دور الزقاق شوكة سمكة كبيرة وعظم الصلب، وتقدير ذلك أن تكون السمكة فيها مائة وعشرون رطلاً، فقال لواحد من أصحاب المسالخ: ويحك ما ترى عظام هذه السمكة كم تُقدَّر ثمنها؟
قال: دينار.
فقال: أهل هذا الزقاق لا تتحمل أحوالهم شراء مثل هذه السمكة؛ لأنه زقاق بين الاختلال إلى جانب الصحراء، لا ينزله من معه شيء يخافه، أو له مال ينفق منه مثل هذه النفقة، وما هي إلا بليةٍ يجب أن يُكشف عنها، فاستبعد الرجل هذا وقال: هذا فكرٌ بعيد.
فقال: اطلبوا امرأةً من الدرب أكلمها.
فدق بابًا غير الباب الذي عليه الشوك واستسقى ماءً؛ فخرجت عجوز ضعيفة فما زال يطلب شربةً بعد شربة وهي تسقيهم، والواثقي في خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك إلى أن قال لها: فهذه الدار مَن يسكنها؟ وأومأ إلى التي عليها عظام السمك.
فقالت: والله ما ندري على الحقيقة من سكانها؛ إلا أن فيها خمسة شباب أعفار- جمع عِفر أي الرجل الخبيث- كأنهم تجار، وقد نزلوا منذ شهرٍ لا نراهم يخرجون نهارًا إلا كل مدةٍ طويلة، وإنا نرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعًا، وهم طوال النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون ويلعبون بالشطرنج والنرد، ولهم صبي يخدمهم، وإذا كان الليل انصرفوا إلى دارٍ لهم في الكرخ ويدعون الصبي في الدار يحفظها، فإذا كان سحر الليل جاءوا ونحن نيام لا نعقل بهم وقت مجيئهم.
قال: فقطع الوالي استسقاء الماء، ودخلت العجوز وقال للرجل: هذه صفة لصوص أم لا؟
فقال: بلى.
فقال: توكلوا بحوالي الدار ودعوني على بابها، قال: وأنفذ في الحال واستدعى عشرةً من الرجال وأدخلهم إلى سطوح الجيران، ودق هو الباب؛ فجاء الصبي ففتح فدخل والرجال معه فما فاتهم من القوم أحد وحملهم إلى مجلس الشرطة وقررهم فكانوا هم أصحاب الخيانة بعينها، ودلُّوا على باقي أصحابهم فتبعهم الواثقي؛ وكان يفتخر بهذه القصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق