جاءت الهجمة الأمنية الأخيرة على الإخوان المسلمين لتطول أحد أهم رموزهم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب لتعيد السؤال من جديد حول سياسات النظام المصري نحو الإخوان المسلمين، وهذه الهجمات المتتالية التي لم تنجح قط في الحد من قوة الإخوان ونفوذهم السياسي، وإن كانت تربك خططهم ونشاطهم، وتعرقل تقدمهم ونموهم المجتمعي والاجتماعي.
ارتبطت الهجمات الأمنية على الإخوان المسلمين منذ بدأت قبل أكثر من ستين عامًا بعدة ظواهر تلفت الانتباه أركز منها على ظاهرتين:
الأولى: أنها تتمُّ دائمًا بقرار سياسي لخدمة أهداف سياسية، ودور الجهاز الأمني هو التنفيذ فقط، وأن كل محاولات إلصاق تهم وجرائم بالإخوان فشلت تمامًا، ولم تصمد أمام أية جهة قضائية محايدة طبيعية، ويكفي أن يقول القاضي الذي حاكم الإخوان في قضية السيارة الجيب بعد انتهاء المحاكمة، وعند بلوغه سن المعاش "بالأمس حاكمتهم واليوم أنضم إلى صفوفهم".
وعندما تمت محاكمتنا عسكريًّا عام 1995م وتطرق أحد المحامين إلى مسألة العنف والإرهاب إذا بالضابط العسكري اللواء الذي يحاكمنا يقول له: "إن الإخوان ليسوا إرهابيين ولا يمارسون العنف".
وعندما قدمت النيابة العامة والعسكرية الإخوان في آخر قضية عسكرية بتهمة غسيل وتبييض الأموال أسقطت الهيئة العسكرية التهمة كذلك، ولم تعاقب المتهمين عليها.
يأتي القرار السياسي عندما يفشل النظام الحاكم في مواجهة الإخوان سياسيًّا واجتماعيًّا، ولا يحترم قواعد المنافسة الشريفة على حب الشعب والجماهير.. يلجأ إلى العصا الأمنية الغليظة ليحسم بها الصراع السياسي في تصوره ولو إلى حين؛ ليكسب مزيدًا من الوقت إذ يدرك في قرارة نفسه أن القضاء على الإخوان أو استئصالهم من المجتمع مستحيل، وليحرم الإخوان من العمل وسط الناس إلى حين.
ويكفي للتدليل على ذلك أن نظام عبد الناصر بكل شعبيته وقوته وسيطرته اكتشف بعد عشر سنوات قضاها الإخوان في الليمانات والمنافي والتشريد والتعذيب أن هناك تنظيمًا جديدًا للإخوان ظهر إلى الوجود عام 1965م بعد 11 سنة في السجون، وبعد تعليق قادتهم على أعواد المشانق ومنع أية كلمة عن الإخوان في المجتمع، ولو همسًا.. إلا أخبار التعذيب البشع الذي قتل العشرات تحت السياط وفي الجبل.
وعندما عاد الإخوان إلى الحياة من جديد بعد عشرين سنةً وخروج آخر أخ عام 1975م في عهد السادات، لم تمض سنوات قليلة حتى كان الإخوان على مانشيتات (الأهرام) عام 1984 عندما نسقوا لخوض الانتخابات مع حزب الوفد الجديد.
وعندما غاب الإخوان قسرًا أو طوعًا عن مجلس الشعب من عام 1990م إلى عام 2000م، وتم منع النواب السابقين وقيادات الإخوان من خوض الانتخابات عاد الإخوان بقوة ليشكلوا أكبر كتلة برلمانية في برلمان 2000- 2005م ويمثلهم 17 نائبًا كانوا أكثر بـ3 نواب من كل نواب أحزاب المعارضة، وزاد تمثيلهم 5 مرات في الانتخابات التالية عام 2005م إلى 88 نائبًا.
الثانية: أن هذه الهجمات تأتي في سياق سياسي إقليمي أيضًا، وليست انعكاسًا لصراع وطني فقط، والسبب هو أن النفوذ الاستعماري لم يرحل عن بلادنا قط، وأن الهيمنة الغربية ما زالت صاحبة الكلمة والنفوذ في كل القضايا الإقليمية، خاصة القضية الفلسطينية، وقد ترجم ذلك الرئيس السادات عندما أكد أكثر من مرة أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، وبرَّر بذلك انحيازه التام إلى معسكر أمريكا وخروجه من دائرة النفوذ السوفيتي الذي كانت بدايات أفوله ظهرت للعيان فعندما ظهر أداء كتائب الفدائيين من الإخوان المسلمين وغيرهم في ساحات القتال على أرض فلسطين عام 1948م أعادهم النقراشي باشا إلى مصر مكبلين بالأغلال مجردين من السلاح إلى معتقلات الطور وهايكستب، وأصدر قراره المشئوم بحل جماعة الإخوان، متذرعًا بأسباب وأحداث مضى عليها سنوات، وليتم بعد ذلك رد الفعل المتوقع في الأجواء المشحونة باغتيال النقراشي؛ ليتم بعدها اغتيال الإمام المؤسس حسن البنا- رحمه الله- وهو في ريعان الشباب، ولم يتجاوز الـ42 عامًا ليذهب إلى ربه شهيدًا إن شاء الله.
وقد أصدر القضاء المصري قراره بعد سنتين بإلغاء قرار الحل العسكري، وعاد الإخوان لدورهم ونشاطهم؛ وليشاركوا بعد ذلك في التخلص من كل النظام الملكي في خطوة كان لها بعد ذلك أبعد الأثر في تاريخ مصر كلها، وانعكست سلبًا على الإخوان أنفسهم.
وجاء الصدام مع عبد الناصر بعد انحياز الإخوان إلى محمد نجيب وإصرارهم على عودة الحياة النيابية وإصدار دستور جديد قدموا اقتراحهم بشأنه، وكان الإخوان وقتها قوة إقليمية في مصر وسوريا والأردن والسودان والعراق، وعلاقتهم طيبة بالسعودية وملكها.
كانت الأجواء الإقليمية تمهد لصدامات وحروب فاشلة مع العدو الصهيوني، وقد أنتجت تلك الحروب منذ 1956م مرورًا بـ1967 وانتهاء بـ1973 تمددًا ونفوذًا صهيونيًّا واضحًا على حساب مصر والعرب، وقد غاب الإخوان المسلمون في غياهب السجون طوال هذه الحروب، وعادوا ليجدوا وضعًا إقليميًّا مختلفًا تمامًا، إلا أن ذلك لم يجعلهم يفقدون بوصلة الاتجاه السليم في الصراع مع العدو الصهيوني والقوة الدولية الداعمة له، فسرعان ما أصبح الإخوان من جديد في قلب الصراع مع العدو، ولم تمض إلا سنوات قليلة لا تزيد على العقدين ليصبح مقر الإخوان قبلةً لأطراف فلسطينية ودولية تريد منهم القبول بما قبلت به النظم العربية من اعتراف بالكيان الدخيل والإقرار بالحلول الاستسلامية.
اليوم يضيف النظام المصري وأجهزته الأمنية القمعية بعدًا جديدًا على الصدام مع الإخوان وهو البعد الدولي.
ولا يدري النظام، أو هو يدري أنه بتلك الإضافة يجعل الإخوان قوة دولية بعد أن اقتصر وصفهم من قبل على أنهم قوة وطنية مصرية لها نفوذ إقليمي وامتدادات عربية، وأن تلك القضية ستضفي على الإخوان مهابةً كبيرةً ونفوذًا أشد، خاصة أن القضاء على الإخوان واستئصالهم ثبت فشله على مدار 80 سنةً من البقاء بفعالية، وأن الإخوان يخرجون من كل محنة أو قضية أصلب عودًا وأمضى عزيمةً وأقوى نفوذًا.
إن الحكومات المصرية المتعاقبة منذ ستين عامًا مطالبة باعتذار واضح ليس للإخوان المسلمين ولكن للشعب المصري عن حرمان هذا المجتمع، وذلك الشعب من الجهود الدعوية والتنموية والاجتماعية والثقافية لنخبة من أشرف وأخلص من عرفت مصر وطنيةً صادقةً وإيمانًا قويًّا وعزمًا فتيًا غيبتهم خلف الأسوار وحاصرت نشاطهم وجهودهم، ومنعت مصر من قطف ثمار ذلك الجهد الدعوي الذي ينطلق من فهم معتدل ووسطي للإسلام العظيم.
وحرمت مصر من أعظم مصادر قوتها الناعمة؛ وهي أن كبرى الحركات الإسلامية نبتت في مصر، وانتشرت منها إلى آفاق الأرض الواسعة.
إلى أخي عبد المنعم أبو الفتوح
عرفتك منذ سنوات قاربت الـ40، شابًا مجاهدًا لا يخشى في الله لومة لائم.. رجلاً بطلاً لا يهاب السجون والمعتقلات وكهلاً نبيلاً لم تثقله السنون ولا الأمراض.
وقضيت معك قرابة السنوات الست داخل السجون والمعتقلات، فكنت نعم الأخ والصديق والمؤنس والمعين.
لا تجزع فهي أيام سرعان ما تنقضي وتخرج إلينا من جديد في صفوف الإخوان المجاهدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق