مرحبا

لا لجدار العار جدار الذل

ادخل وشارك برايك وقل لا لجدار العار جدار الذل

خدمات الموقع

HELP AQSA

break

الجمعة، 25 ديسمبر 2009

ثقافة القطيع

ثقافة القطيع
تاريخ النشر : 16/11/2009 - 07:07 م

كنت مستغرقا فى قراءة تقرير معمق عن أوضاع مصر الاقتصادية كتبه جاك شانكر فى صحيفة الجارديان البريطانية ونشرته صحيفة " الشروق " المصرية يوم السبت 14 نوفمبر حينما ترامى لمسامعي حيث كنت في القاهرة أصوات صاخبة لصراخ وهتافات وأبواق سيارات وإطلاق ألعاب نارية تشير إلى أن الفريق المصري لكرة القدم الذي كان يلعب مع فريق الجزائر فى ذلك الوقت قد أحرز هدفا فى مرمي الفريق الجزائري ضمن من خلاله مباراة أخري فاصلة في السوادان ، وأذكر أني فى ذلك اليوم الذي وصلت قبله بيوم واحد إلى القاهرة حينما كنت أمارس رياضة المشي فى الصباح الباكر حول إحدى حدائق القاهرة القليلة الباقية من زمن مصر الجميل رأيت من بعيد رجلا يبدو حسن الهندام يبحث فى أحد صناديق الزبالة التى تتواجد حول الحديقة وهذا أمر أصبح مألوفا فى القاهرة بشكل كبير أن تجد من ببحث عن شيء في صناديق الزبالة ولكن ليس حسن الهندام كما رأيت، وحينما اقتربت كان الرجل - وهو يتلفت بحذر وكأن الأمر جديد عليه أو يخشى أن يراه أحد يعرفه- يفرغ الأكياس من محتوياتها بسرعة ويبحث عن أي شيء نافع له فيها يضعه فى كيس كان يحمله، ورغم أني أغض الطرف عادة إذا رأيت ما يسبب الحرج إلا أن حسن هندام الرجل مع ما يقوم به دفعني للفضول وأن أبطئ الخطى لأعرف ما الذي يبحث عنه الرجل فى صندوق الزبالة، عجبت لما رأيته يضع فى كيس البلاستيك الذي كان يحمله زجاجات مياه بلاستيكية فارغة كما وجدته مشغولا بالبحث فى علبة دواء فارغة ربما وجد بقايا دواء فيها حيث كان يقرأ ما عليها ولاحظت أنه كان يفتح أكياس الزبالة التى في الصندوق ويفرغها بسرعة ثم مد يده بسرعة لشيء ما يفتحه إما يضعه فى كيس البلاستيك أو يلقيه مرة أخرى في الصندوق ، لاحظ الرجل أني أراقبه فبدا عليه الحرج وأعطاني ظهره بعدما نظر إلي نظرة ربما بها ألم أو حسرة أو لوم لكن المشهد برمته ألقى في نفسي ألما شديدا أن أصبح حسنو الهندام يبحثون فى أكياس الزبالة فى مصر عن شيء، أي شيء فأدركت أن الأمر قد وصل إلى درك خطير .

من جانب آخر فإني أذكر أني لم أفلح في ذلك اليوم في قضاء كثير من المصالح التى سعيت لقضائها حيث كان الجميع فى مصر مشغولا بمباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، والرياضة شيء محبب ومهم لدى الشعوب لكني شعرت أن الأمر قد تجاوز الرياضة ليصبح هو كل شيء فى حياة المصريين، فقد خرج الناس من كل همومهم أو هربوا منها بمفهوم أدق وسعوا للخروج من الإحباط الذي يعيشون فيه أو جعلتهم حكومتهم يعيشون فيه ليكون كل هدفهم أن تفوز مصر على الجزائر في مباراة كرة قدم حتى تسترد مصر عزتها وكرامتها وريادتها وسيادتها كما يتوهم هؤلاء، كل هذا فى بلد كما يقول جاك شانكر يصل الحد الأدنى للراتب فيه لنسبة عالية من الشعب أربعة جنيهات استرلينية في الشهر بينما نسبة الفقر المدقع وصلت إلى 20% من السكان بينما 40% لا تزيد دخولهم عن دولار واحد شهريا هؤلاء جعلوا كل همهم أن يهزموا الجزائر فى مباراة كرة قدم لا أن يهزموا الفقر الذي يزحف على من بقي من نسبة 90% من الشعب لا تستفيد الوفرة المالية التى تصب فى جيوب 10% فقط من المحظوظين من أبناء النظام وحوارييه، وفي وقت لا يجد القطيع أنابيب الغاز المنزلي، لا يحظى ملاك مصانع الحديد والسماد الذين ينتمون لنسبة الـــ 10% المحظوظة بأسعار مدعمة للغاز وحدهم، بل إن الأسرائيليين الذين سفكوا دماء المصريين فى أربعة حروب ولازالوا يسفكون دماء الجنود المصريين على الحدود من آن لآخر يحظون بأسعار مدعمة للغاز المصري لا يحصل عليها أي من أبناء القطيع الذي اختزل الانتماء والعطاء للوطن والجهاد من أجل بنائه في مباراة كرة قدم ضد فريق عربي ساهمت مصر بل قامت بالدور الرئيس فى تحريره واستقلاله قبل خمسين عاما .

لقد نجح النظام الذي أفقر الشعب وأمرضه ودمر فيه الإنسانية والآدمية؛ في اختزال المواطنة والانتماء وحب مصر لدى المصريين في رفع الأعلام والتعصب لمباراة كرة قدم ضد بلد وشعب شقيق واعتبر النصر فيها أكبر من الانتصار على إسرائيل وعلى الفقر والفساد والمرض الذي يفترس هذا القطيع، وهذا الأمر بهذا الشكل وبهذه الطريقة يمثل واحدة من أعلى درجات الإفساد للمجتمع وللانتماء وللمواطنة، لأن ما يحدث ليس سوى عملية تفريغ لمصر من حاضرها ومن تاريخها ومن أزماتها التى سببها النظام الفاسد الذي يحكم، ودليل على أن هذا الشعب يريد أن يهرب من أزماته التى ليس أولها أزمة تراكم الزبالة فى شوارع العاصمة الكبرى، أو أن صناديقها أصبحت مصدرا لإطعام كثيرين أو تفشي الفساد والبطالة وري المحاصيل الزراعية بمياه المجاري واختلاط مياه المجاري بمياه الشرب وتفشي التيفوئيد والأمراض القاتلة بين أبنائه .

لقد شعرت بِهّمٍّ وحزن شديد على ما آل إليه مصير الشعب المصري وأنا أحد أبنائه، حينما وجدت المصريين يهربون من هموم وطنهم بهذه الطريقة، طريقة ثفافة القطيع ، وشعرت إلى أي مدى نجح الحكام الذين دمروا آدمية هذا الشعب على مدي العقود الستة الماضية أن يحولوا المبدعين من أبناء هذا الشعب إما إلى مهاجرين يفيدون العالم بما لديهم من علم وإبداع وإما إلى محبطين فى بلادهم يحاولون الحفاظ على ما تبقي من خيرية الأمة وعلمها وثقافتها، أما باقي الشعب فقد أصبح ملهاة وأداة للتسلية والفرجة، لقد تحولت حقيقة المواطنة والانتماء من بذل وعرق وبناء للأوطان إلى ثقافة رفع الأعلام في الشوراع والهتاف لفريق كرة قدم، بينما التخريب فى كل مناحي الحياة في بلادهم يتم تحت أعينهم فيشاركون فيه أو يسكتون عن إيقاف المخربين .

أشعرني ما حدث فى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 2009 أن كل المصلحين الذين يريدون أن ينهضوا بهذا الشعب إنما يحرثون في البحر ، وأن هناك آمادا واسعة بين هذا الشعب وبين خروجه من هذا المستنقع الذي يعيش فيه 90% من أبنائه وفقا لما ذكره جاك شانكر نقلا عن تقرير حكومي رسمي مصري هام لم يعرف هذا الشعب شيئا عنه أعدته هيئة الاستثمار التابعة للحكومة المصرية .

حتى لو فازت مصر فى مباراتها مع الجزائر، وشاركت فى مباريات كأس العالم وماذا لو فاز الفريق المصري بكأس العالم فى كرة القدم بينما 90% من الشعب المصري فقراء أو في طريقهم إلى الفقر والمرض حسب التقارير الاقتصادية ومنها تقارير رسمية، ما هو العائد على هذا القطيع الذي يأكل الفقر والمرض جسده بينما يستنفد كل طاقته ليس فى القضاء على الفقر والمرض أو على الذين سببوه وإنما فى التصفيق والهتاف لفريق كرة قدم .

كانت أصوات أبواق السيارات تتعالى فى الشوارع المحيطة بمنزلي وكذلك أصوات الهتافات بينما كنت أعيد قراءة ما كتبه جاك شانكر عن هؤلاء السكارى وأنا أدرك حجم السعادة الغامرة التي عمت نفوس ناهبي هذا الشعب ومصاصي دمائه، أنْ أوصلوه إلى هذا الحد من السفه والحيرة والتفاهة والضياع، ثم استغرقت مثل كثير ممن يحبون مصر ويعرفون معنى الانتماء والمواطنة في هم عميق .

ليست هناك تعليقات: