الصعود التركى ليس معجزة..أ/ فهمي هويدي |
16/12/2009 أ/ فهمي هويدي الشق السهل في المسألة أن نتحلى بقليل من التواضع وكثير من التجرد لكي نفسر الصعود التركي الذي خطف الأبصار وأسر القلوب، أما الشق الصعب حقا فهو أن نتعلم منه. (1) حين كتب زميلنا رئيس تحرير صحيفة "الحياة" اللندنية غسان شربل مقالة تحت عنوان "لا تتركنا أوغلو" (عدد 2/11/2009) فإنه عبر عن الإحباط الذي ينتاب المثقف العربي إزاء الفشل في التعامل مع مختلف الملفات المطروحة في الساحة العربية. وقتذاك كان وزير الخارجية التركي الدكتور أحمد داود أوغلو في زيارة أربيل عاصمة كردستان العراق، وقد وصل إليها قادما من الموصل حيث افتتح قنصليتين في المنطقتين العربية والكردية. فكتب صاحبنا موجها إليه كلامه قائلا: "قتلتني الغيرة حين شاهدت صورتك مع البارزاني. منذ شهور ونحن نتحرق لنرى ودا مشابها في صورة تجمع محمود عباس وخالد مشعل". تحدث أيضا عن أزمة لبنان الذي كان تشكيل حكومته متعثرا منذ خمسة أشهر، ثم ختم مناشدا الدكتور أغلو أن يتدخل لإنقاذ الموقف استنادا إلى مهارته في حل الخلافات، وإلى كون تركيا أصبحت ذات كلمة مسموعة في الإقليم. كثيرة هي الكتابات المماثلة التي تحدثت عن النجاحات التي حققتها السياسة الخارجية التركية، حتى إن بعضها تحدث عن دخول الشرق الأوسط إلى "العصر التركي" (بول سالم مدير مركز كارنيجي للشرق الأوسط ببيروت- الحياة 29/9). وقد لفت صاحب المقال الأنظار إلى المتحولات الإستراتيجية المهمة في المنطقة التي أسهم فيها الموقف التركي. فأشار إلى أنه طيلة معظم القرن العشرين كانت إسرائيل وتركيا وإيران في معسكر واحد، لكن الثورة الإسلامية في إيران غيرت من تلك الحقيقة. وجاء الموقف التركي الأخير ليجعل إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها. في هذا المعنى سجل الصحفي التركي البارز جنكيز شاندار ملاحظة مهمة في مقالة نشرتها له صحيفة "راديكال" (عدد 22/10)، قال فيها إن تركيا سعت يوما ما إلى استمالة أميركا عن طريق التقرب من إسرائيل، لكن الموقف اختلف الآن بحيث أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن. وختم هذه النقطة قائلا: "إن إسرائيل وواشنطن مدعوتان إلى إدراك أن من يحاول التقرب من إسرائيل لخطب ود واشنطن سيلقى مصير محمود عباس، أي إنه سيحكم على نفسه بالإعدام". الذين يتابعون الشأن التركي من الخارج قدروا إنجازات حكومة حزب العدالة والتنمية على ذلك الصعيد، وهذا التقدير مستحق لا ريب، لكن كثيرين لا ينتبهون إلى أن إنجازات الخارج ما كان لها أن تتم إلا بعد اجتياز امتحان الداخل بدرجة عالية من النجاح. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن ما تحقق في الداخل من نجاحات كان الأساس الذي انطلقت منه واتكأت عليه الإنجازات المتلاحقة التي تحققت في الخارج. (2) في زيارتي الأخيرة لأنقرة تناولت الغداء مع أحد الأصدقاء في مطعم أقيم فوق تلة تطل على واد فسيح مليء بالخضرة التي توزعت على سلسلة من الحدائق البديعة المنظر. وحين وجدني الصديق مأخوذا بالجو المحيط، بادر إلى القول إن ذلك الوادي الفسيح كان قبل سنوات قليلة "مقلبا" لقمامة العاصمة. ولكن يد البلدية امتدت إليه وأحدثت فيه ذلك الانقلاب، ضمن السياسة التي اتبعتها لمضاعفة مساحات الخضرة في المدينة، وتوفير فرص أوسع لتجميلها وللترويح عن السكان في الوقت ذاته. أضاف محدثي قائلا: إن البلدية حرصت على أن تخصص في كل حديقة ركنا متميزا زودته بلعب الأطفال، بحيث أصبحت الأسر التركية ترتاد تلك الحدائق وهى مطمئنة إلى أن أطفالها سيجدون فيها ما يمتعهم طول الوقت. قال الصديق الخبير إن قصة مقلب القمامة تعد رمزا للانقلاب في ساحة الخدمات التي عرفتها الساحة التركية، وإن النجاح الحقيقي لحكومة حزب العدالة تمثل في أنها استطاعت أن تقنع الناس بأنها جاءت لتلبي احتياجاتهم وترفع مستوى الخدمات المقدمة إليهم. وهذه المهمة تتصدى لها بالدرجة الأولى 81 بلدية عامة بالمحافظات، غير آلاف البلديات الفرعية بالأحياء السكنية والقرى. وهذه صلاحياتها تتجاوز الاهتمام بالمرافق العامة، لتشمل مختلف الأنشطة الأخرى الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياحية. إننا إذا ضربنا مثلا ببلدية إسطنبول -الأكبر في تركيا- سنجد أنها خلال خمس سنوات في الفترة ما بين عامي 2004 و2009 استثمرت مبلغ 22.6 مليار دولار في العديد من الأنشطة المتعلقة بخدمة الناس، منها على سبيل المثال: مد 28 كيلومترا لخطوط الترام والمترو (60 كلم أخرى تحت الإنشاء)، شق عشرة أنفاق وإقامة مرائب تسع خمسة آلاف سيارة وإضافة 3278 كلم لشبكة المجاري والصرف الصحي وألف كيلومتر لشبكة المياه، وزيادة 55% للمساحات الخضراء، وافتتاح ثمانية شواطئ صيفية، وتجميل 18 ميدانا عاما، وجمع 15 مليون طن نفايات يوميا، وإسكان 30 ألف عائلة. إضافة إلى هذا الجهد المتعلق بالمرافق، فإن بلدية إسطنبول أنجزت في الفترة ذاتها ما يلي: أنشأت 18 مركزا ثقافيا وقاعة للمؤتمرات، و11 مكتبة عامة، وقامت بترميم 81 أثرا تاريخيا. كما أنشأت 32 مركزا للعناية الصحية والطبية و18 بيتا للمسنين و17 مركزا للتأهيل الصحي و17 مركزا رياضيا و14 مركزا اجتماعيا. علاوة على تزويد 220 حديقة عامة بالآلات الرياضية المجانية وبناء 120 مدرسة متنوعة ومشروع إنترنت مجاني بالأماكن العامة. وأقامت معسكرات صيفية لعدد 73 ألف شاب وفتاة، و146 مركزا للتدريب والتثقيف المجاني. كما تولت توزيع 550 ألف أطلس جغرافي على الطلاب، وقدمت 187 منحة دراسية مجانية للشباب، وتولت مساعدة 170 ألف أسرة فقيرة، وقامت بإنتاج 1.7 مليون رغيف خبز يوميا بسعر رخيص. حين تقوم البلديات بمثل هذه الجهود المتنوعة فلا بد أن تكسب ثقة الناس وتأييدهم. وبوسع الحكومة المنتخبة في هذه الحالة أن تتحرك في الخارج وهي مطمئنة إلى أنها مؤمنة الظهر وواقفة فوق أراض صلبة ومتماسكة. (3) الإنجاز في الداخل عنصر مهم في نجاح النموذج التركي، لكنه ليس العنصر الوحيد. ذلك أن هناك عناصر أخرى أسهمت بأدوار مختلفة في صناعة ذلك النموذج. فالمجتمع التركي يتمتع بحيوية خاصة جعلته حاضرا ومساهما بشكل فعال في محاولات النهوض وصناعة التقدم في البلد. وكان لنظام الوقف الإسلامي دور المحرك لتلك الحيوية التي لازمت التاريخ التركي في مراحله الثلاث: السلجوقية والعثمانية والجمهورية، أي طوال القرون العشرة الأخيرة، إذ خلال تلك الفترات كانت للجماعات الأهلية، التي ضمت خليطا من القادة الروحيين والحرفيين والتجار، مؤسساتها الوقفية التي تمول أنشطتها، وظلت تلك هي الصيغة التي من خلالها أسهم المجتمع في تحقيق التنمية بصورة مستقلة عن الحكومة، وإن كانت مكملة ومعينة لها. وكان النجاح الذي حققه الوقف على ذلك الصعيد حافزا للأوروبيين لكي يقتبسوا نظامه من الدولة العثمانية إلى بلادهم ويطوروه، تماما كما فعلوا مع نظام "الملل" الذي ابتدعه العثمانيون في تطبيقهم للشريعة، ونقل إلى الغرب ليكون أساسا لفكرة التعددية التي لم تكن معروفة لديهم من قبل. في تركيا الآن ما بين 50 إلى 60 ألف جمعية خيرية تمولها الوقفيات (البعض يرتفع بالرقم إلى 90 ألفا)، وهذه الجمعيات تغطي كل مجالات النشاط الإنساني، من الأنشطة الخيرية التقليدية إلى ميادين العلوم والفنون والبيئة وحقوق الإنسان ورجال الأعمال. وحسب رئيس اتحاد المنظمات الأهلية فتحي جونجور فإن ميزانية تلك الجمعيات بلغت 7 مليارات دولار في سنة 2007، بل إن جماعة النور التي أسسها الشيخ فتح الله جولن قدر رأس مالها بخمسة مليارات دولار، وتدير مشروعات في داخل تركيا وخارجها تشمل المدارس والجامعات والشركات وتملك مجموعة صحف ومجلات ومحطات تلفزيونية وإذاعية. وقد أسست ألف مدرسة في 140 دولة خارج تركيا. إنك إذا ضممت الدور الكبير الذي تقوم به المؤسسات الوقفية إلى جانب الهمة العالية التي تعمل بها البلديات، فستجد أن الجهد كله يصب في وعاء عافية المجتمع ورصيد نهضته. وإلى جانب تلك الخلفية ذات الجذور الضارية في عمق التاريخ التركي، فإننا لا نستطيع أن ننسب النجاح الراهن إلى جهود حكومة حزب العدالة والتنمية وحدها التي تولت السلطة في العام 2002، ذلك أن الإنصاف يدعونا لأن نقرر أن قادة الحزب حققوا ما حققوه حينما ساروا على الطريق الذي مهده لهم الرئيس الأسبق تورجوت أوزال، مؤسس حزب الوطن الأمم، الذي تولى رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية في الفترة ما بين 1983 و1993 (الشائع أنه مات مسموما). وهو ما يدعونا إلى القول بأنه إذا كان مؤسس حزب الرفاه ذي الخلفية الإسلامية البروفيسور نجم الدين أربكان هو الأب الروحي لقادة حزب العدالة والتنمية، فإن تورجوت أوزال هو أستاذهم في مجال الإصلاح السياسي والاجتماعي. إذ يعزى إليه الفضل في إطلاق محاولات بناء الجمهورية التركية الثانية، المتحررة من هيمنة العسكر، والمنفتحة سياسيا واقتصاديا على الداخل والخارج. (4) هناك عاملان آخران لا نستطيع أن نتجاهل دورهما في نجاح النموذج التركي، الأول يتمثل في تطبيق النظام الديمقراطي، الذي ساعد على نمو دور المجتمع الأهلي وعلى إنضاج خبرات المشتغلين بالعمل السياسي، وأتاح فرصة إخضاع السلطة للحساب والتداول بناء على قرار الجماهير في الانتخابات العامة. وكان الالتزام بمبادئ الممارسة الديمقراطية وراء تقليص دور العسكر في القرار السياسي، الأمر الذي جعل إرادة الشعب هي المرجعية الأهم في صناعة ذلك القرار وحمايته. البعض يحاول نسبة ذلك الإنجاز إلى العلمانية، وذلك فيه الكثير من التبسيط والتغليط. ذلك أن التجارب أثبتت أن الربط ليس حتميا بين الديمقراطية والعلمانية، علما بأن أكثر النظم العلمانية في العالم العربي هي أقلها ديمقراطية، ثم إن العلمانية التي فرضها كمال أتاتورك في تركيا أخضعت البلاد لحكم العسكر وعرضتها لانقلاباتهم، وعمدت إلى سحق الأكراد، ولم يحسن من صورتها سوى إصلاحات تورجوت أوزال. وإذا كان النموذج التركي قد أثبت أن في العلمانية تطرفا قمعيا وإقصائيا واعتدالا ديمقراطيا ومتسامحا مع الآخر، فإن ذلك ينفي فكرة "الحتمية" التي سبقت الإشارة إليها. فضلا عن أنه يضع العلمانية على قدم المساواة مع غيرها مع الأفكار المطروحة، التي يتوزع أنصارها أيضا بين جناحي التطرف والاعتدال. العنصر الثاني المهم في نجاح النموذج التركي هو وضوح الرؤية الإستراتيجية لدى النخبة الحاكمة. وهذا الوضوح لم يكن من نصيب الأهداف فحسب، وإنما انسحب على الوسائل أيضا. ولم يعد سرا أن منظر ومهندس هذه المرحلة من التاريخ التركي هو وزير الخارجية الحالي والمستشار السياسي الأول الدكتور أحمد داود أوغلو، الذي كان يحلم في مؤلفاته منذ كان أستاذا للعلوم السياسية بأن تصبح تركيا دولة محورية في المنطقة، وأدرك أنها لا تستطيع أن تقوم بذلك الدور إلا إذا نجحت في أمرين أساسيين هما: تحويل تركيا إلى دولة قوية ومستقرة في الداخل، ومتصالحة مع كل محيطها في الخارج. ومن هذين المبدأين انطلقت سياسات تعزيز التصالح مع المجتمع بجميع فئاته -خصوصا الأكراد- والتقدم على طريق الإصلاح السياسي، والسعي الحثيث لتعزيز القدرة الاقتصادية. وفي ظل هذا المسعى الأخير أصبح الاقتصاد التركي يمثل المرتبة السابعة عشرة في العالم الصناعي. وهم يتطلعون إلى إيصاله إلى المرتبة العاشرة في العام 2022، في ذكرى مرور مائة سنة على تأسيس الجمهورية. وكانت تلك هي الرؤية التي تبنت سياسة "زيرو" مشاكل، التي بمقتضاها حلت تركيا مشكلاتها مع كل جيرانها حتى أوصلتها إلى درجة الصفر، الأمر الذي فتح لها الطريق لكي تنتقل من دول "الجسر" الهامشية في المنطقة، لتصبح دولة مركزية مؤهلة للعب دور محوري في الساحتين الإقليمية والدولية. ليس في كل ذلك سر، ولكن بمقدور كل أحد أن يحقق ذلك إذا أخذ بالأسباب واستوفى شروط اللياقة والجدارة، وأولها توفر الإرادة المستقلة التي أصبحنا في العالم العربي نفتقدها ونسمع عنها فقط، تماما كالغول والعنقاء والخل الوفي، التي تحدث عنها بعض شعراء العرب. |
HELP AQSA
الجمعة، 18 ديسمبر 2009
الصعود التركى ليس معجزة..أ/ فهمي هويدي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق