مرحبا

لا لجدار العار جدار الذل

ادخل وشارك برايك وقل لا لجدار العار جدار الذل

خدمات الموقع

HELP AQSA

break

الجمعة، 4 ديسمبر 2009

ليس دفاعًا عن الشهيد سيد قطب ..د/ محمد عبد الرحمن

ليس دفاعًا عن الشهيد سيد قطب ..د/ محمد عبد الرحمن

03/12/2009

*د/ محمد عبد الرحمن

هذه السطور ليست دفاعًا عن الشهيد سيد قطب- نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا- وإنما توضيح وتأكيد على حقائق نعلمها جيدًا، يجب أن نذكرها ولا نسكت عنها.

إننا نتساءل: لماذا هذه الهجمة الشديدة على الشهيد وكتاباته؟ وهي تهدأ لفترة ثم لا تلبث أن تنشط، وينضم لها كل حين بعض الكتاب أو الأفراد ممن يتحركون في مجال الدعوة الإسلامية، وهم لم يظهروا نصف هذا الغضب على المشروع الصهيوني والمؤامرات والقيم الغربية التي تستهدف أمتنا.

ولمصلحة مَنْ يتم ذلك؟ ولماذا تلتقي هذه المواقف مع مواقف أعداء الإسلام من صهاينة وأمريكان؟ ولماذا في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى إيقاظ الأمة وحشدها لمقاومة ومواجهة العدوان عليها؟

ويا ليت الحملة كانت تستهدف النقد الموضوعي، وأن تطرح النقاط والمواضيع التي تكلم فيها الشهيد، وتعرض التصور الصحيح المستند للأدلة الشرعية في تلك الأمور؛ لكنها استخدمت الأسلوب الإعلامي، وإطلاق الأحكام وإلصاق الصفات بكتابات الشهيد دون تمحيص علمي.

ينبغي على من يحكم على كتابات الشهيد سيد قطب أن يستخدم الأسلوب العلمي المحايد، وأن يتجرد من أي انحياز نفسي، يكون متأثرًا بموقفه من التيار الذي ينتمي إليه، أو متحاملاً على شخصه وذاته، أو شاعرًا بالغيرة منه.

إن أي كاتب إذا أردنا أن نحكم على آرائه أو نستوضحها لا يكتفي بمجرد قراءتنا وفهمنا لبعض ما كتب؛ وإنما يكون هذا من خلال أسلوب علمي محدد يحقق مبدأ "التثبت والتبين".

1- إما ان يكون بمناقشته فيما كتب واستيضاح ما يقصد.

2- وإذا كان غير موجود، فننظر إلى سلوكه وآرائه العملية؛ لنفهم في ضوئها مقاصده ومعتقداته.

3- وكذلك أن ننظر في كلماته كلها ولا نجتزئ منها سطورًا.

4- وإذا كان الكاتب قد سطَّر آراءً، ثم رجع عنها بعد ذلك وأعلن عدم رضائه، فلا ينبغي أن نحاسبه عليها بعد ذلك.

مثلما فعل الشهيد عندما أعلن عن عدم رضائه عن كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وأن به بعض الأخطاء، وسيحاول إعادة كتابته، وكان هذا الكتاب في بداية توجهه الإسلامي، وقبل التزامه بجماعة الإخوان المسلمين.

5- كذلك علينا ألا نحاسبه فيما فهمه بعض الناس عندما طالعوا كتاباته، وإنما ماذا كان يقصد وما هو فهمه؟

إن الشهيد سيد قطب- رحمه الله- من مواليد (9/10/1906م)، أي يسبق مولد الإمام الشهيد حسن البنا بأيام قليلة (أقل من شهر)، وكان- رحمه الله- أديبًا بليغًا، وناقدًا أدبيًّا متميزًا، شهد له بذلك من عاصروه، وقد تميز في عصر كثر فيه الفطاحل من الأدباء والشعراء.

وقد التزم بجماعة الإخوان المسلمين أواخر عام 1951م، واستشهد يوم الإثنين 29/8/1966م قبل بزوغ الفجر أي قارب على الخمسة عشر عامًا داخل صفوف الإخوان، قضى منها داخل السجون أكثر من أحد عشر عامًا، وتولى بعد عام 1951م مسئولية قسم نشر الدعوة، وهو أحد أهم أقسام الجماعة التي تتعامل مع المجتمع.

فهل كان الشهيد يكفر الناس حكامًا ومحكومين؟ وهل كان يصف هذه المجتمعات بالجاهلية، أي بالكفر والخروج عن الدين؟ وهل كان ينتهج منهج العنف والانعزال؟

إننا إذا طبقنا المنهج العلمي في الدراسة والتقييم؛ لوصلنا إلى نتيجة قطعية بالنفي لهذه الاتهامات.

لقد كان الخطأ في حقيقته عند هؤلاء الذين أرادوا أن يفهموا فهمًا معينًا، ويحملوا باقي كلامه على هذا الفهم، رغم أن حياته العملية وأقواله وكتاباته ومن عاشوا بالقرب منه تقطع بابتعاده عن هذه المفاهيم.

أو نجد البعض يقفون عند بعض الألفاظ ذات الدلالة الأدبية، ويجردونها عن سياقها، ولا ينظرون أن الكاتب كان أديبًا، ولا يقصد المعنى الذي ذهبوا إله مطلقًا.

ولا يعنينا هنا أن فلانًا من العلماء أو المشاهير أصدر هذه الأحكام والصفات على ما كتبه الشهيد؛ فالبحث العلمي يقوم على الأدلة والبراهين وعلى القواعد العلمية للتثبت والحكم.

وبالنسبة لما سطَّره الشهيد من كتابات؛ فإن طبيعته الأدبية وبلاغته كانت ملازمةً له.

وهو نفسه عندما كتب الظلال، قال في مقدمته إنه لا يكتب تفسيرًا للقرآن، فهذا له قواعده وأسلوبه؛ ولكن خواطر ومعاني يستشعرها عند معايشته وتلاوته لآيات الذكر الحكيم.

ومن المعروف عن الشهيد أنه كان رجّاعًا، إذا راجعه أحد وناقشه، وكان يعرض ما يكتب قبل طباعته على الكثير من إخوانه، ويستمع إلى نصائحهم.

ولكي نفهم ما كتب، نرى أنه لم يخرج عما كتبه من كان قبله من علماء الإسلام في الأمة، فهذه كتابات ابن القيم وابن تيمية وغيرها، كان فيها لفظ الجاهلية والحملة الشديدة عمن انحرفوا عن أحكام الإسلام.

كان مقصده بكلمات الجاهلية: القيم والمفاهيم، وليس الأشخاص أو الناس في المجتمع، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه عندما أخطأ مرة "إنك امرؤٌ فيك جاهلية".

وما ذكره هو من لفظ الحاكمية وضحه في أماكن أخرى؛ حيث يقصد بها التأكيد على المرجعية لشرع الله وضرورة تطبيقه، وما ذكره عن انتساب الناس للإسلام بحكم شهادة الميلاد هو كلام عام ذكره غيره من العلماء الذين سبقوه، ولم يتهمهم أحد بادعاء التكفير.

كان رحمه الله يستخدم الكلمات البليغة الأدبية لتوضيح رأيه والدفاع عن الإسلام، ولم يكن بصدد إصدار أحكام، فهذه لها أصول ولها أهلها من علماء الشريعة، ولم يدع هو ذلك في يوم من الأيام.

وحول حديثه عن الجهاد، لم يخرج عن قول علماء الأمة عن شرح نوعي الجهاد: "جهاد الدفع" و"جهاد الطلب"، أي الغزو في سبيل الله، ولم يدع أنه سيتكلم عن الأحكام الفقهية والشروط الشرعية المتعقلة بذلك، وإنما كان يتحدث عن المبدأ والمفهوم.

المناخ والمرحلة التي واجهها الشهيد

كان- رحمه الله- في مرحلة من تاريخ الأمة تواجه فيها ضغوطًا كبيرةً وهجومًا حادًّا شديدًا حول القيم الإسلامية؛ وخاصة في مجال المرأة، مع غياب لتطبيق الشريعة الإسلامية، وزحف للقيم الغربية على المجتمعات الإسلامية، مما أثر على التصورات والمفاهيم، وكانت قيم الإسلام في المجتمع تتعرض وقتها للسخرية والاستهزاء من وسائل الإعلام ومن بعض التيارات المختلفة.

فكان يرد على كل ذلك وهو يركز على البناء النفسي؛ لكي يحدث التوازن فيه، ويرسخ فيه الثبات على هذه القيم الإسلامية مهما كان الواقع من حوله، ولهذا كان حديثه القوي عن الاستعلاء والعزلة الشعورية، وعن جاهلية القيم والمفاهيم المنحرفة عن منهج الله، ولم يقصد أن يتكلم عن قضية التكفير وأحكامها الشرعية.

كان كما وصفه المستشار طارق البشري، كالمدفعية الثقيلة التي ترد على تلك الهجمة من خندق الدفاع والثبات.

كان- رحمه الله- يواجه محاولة تمييع القيم والمفاهيم الإسلامية، واستدراج الناس إلى مسميات مضمونها فارغ من قيم الإسلام، أو حتى تعارضه؛ فكان يريد أن ينبه الأمة لكي تفطن إلى ذلك، ولا تنخدع ولا تضفي الشرعية الإسلامية على مثل تلك الأطروحات.

توضيح بعض كلماته وآرائه

نشير هنا إلى نماذج من بعض آرائه وكتاباته التي إذا وضعناها بجوار الكتابات الأخرى؛ يتضح لنا حقيقة ما يقصد.

أ) ففي كتاب "معالم" الذي اشتهر بأن فيه تلك الرؤية التكفيرية الانعزالية، نجده في آخر صفحات الكتاب يتكلم عن الجاهلية والتعامل معها:

"ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها؛ مهما يشتد ضغطها علينا، إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية.

إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة ضغط ساحق عنيف.. لا بد أن نثبت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانيًا، ولا بد أن نرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التي نريدها.

ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن، وننزوي عنها وننعزل، كلا.. إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة والاستعلاء بالإيمان في تواضع.." (كتاب معالم في الطريق صـ 176).

ب) ومن أقواله التي نقلت عنه:

"إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله" (من كتاب أعلام الحركة الإسلامية لعبد الله العقيل صـ 652).

جـ) كان الشهيد يرفض فرض الإسلام من أعلى على الناس، أو يستخدم العنف والقوة داخل المجتمع، وإنما السبيل للالتزام بالإسلام وإقامة الحكم الإسلامي؛ هو إيقاظ القلوب، وتفهيم الناس، وبناء القناعات الصحيحة لديهم.

فيقول- رحمه الله-: "ولا بد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة؛ وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة.. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم، قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي؛ لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به.." (جريدة "المسلمون"، من مقالة بعنوان: لماذا أعدموني؟ ذكرت كلمات وكتابات له).

د) وها هو الشهيد يصف المجموعة التي تولى تربيتها عام 65، عندما تمَّ اعتقاله تمهيدًا لإعدامه: "لقد اتفقنا على مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم وفرض النظام الإسلامي من أعلى؛ لأن المطالبة بإقامة النظام الإسلامي وتحكيم شريعة الإسلام ليست هي نقطة البدء، وإنما هي نقل المجتمعات ذاتها إلى المفهومات الإسلامية الصحيحة، وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كله، فعلى الأقل تشمل عناصر وقطاعات تملك التوجيه والتأثير في اتجاه المجتمع كله إلى الرغبة والعمل في إقامة النظام الإسلامي".

(كتاب شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر- المستشار سالم البهنساوي صـ237).

هـ) وعندما سُئل في التحقيق- وكانت إجاباته من منطلق أنها شهادة للتاريخ؛ حيث كان متأكدًا أنه سيصدر عليه الحكم بالإعدام، سأله المحقق: هل ترى أن هناك فرقًا بين المسلم المنتمي لجماعة الإخوان وغير المنتمي لتلك الجماعة؟

كانت إجابته المدونة في الأوراق:

"الذي يميز الإخوان أن لهم برنامجًا محددًا في تحقيق الإسلام؛ فيكونون مقدمين في نظري على من ليس لهم برنامج محدد..".

ثم سأله المحقق:

س: فلمَ التمييز بين أفراد هذه الجماعة وبين المسلمين قاطبة، وهم جميعًا أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج؟

أجاب: "التمييز- في رأيي- ليس تمييز شخص على شخص، ولكن فقط باعتبار أن الجماعة ذات برنامج، وأن كل فرد مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق الإسلام عمليًّا، وهذا هو وجه التمييز في رأيي".

فلم يكن- رحمه الله- حتى آخر يوم في حياته يعتقد أو يظن أن المسلمين أصبحوا داخلين في نطاق الكفر بل يثبت لهم الإسلام.

وأيضًا يتضح أن الشهيد لم يذهب مطلقًا في رؤيته أن ينتقي مجموعة من الأفراد ينعزل بهم عن المجتمع؛ بحجة أنه جاهلي ليقوم بتربيتهم ثم القفز بهم على السلطة، فها هو يقرر بوضوح أن الطريق هو تربية أفراد المجتمع وتفهيمهم وإقناعهم القيم والتصورات الإسلامية وكيفية الالتزام الصحيح بها، وأن يشمل ذلك جيلاً بأكمله؛ فإن لم يكن المجتمع كله، فعلى الأقل نسبة كبيرة فيه تصبح هي الغالبية، وتملك التأثير فيه.

وقد كانت رؤيته لمجموعة الشباب في 65، إنهم خطوة على الطريق ضمن البداية التي يجب أن تستمر وتتسع لتشمل جيلاً بأكمله.

شهادات من عاشوا معه والتقوا به

أ) لقد حدثت مناقشات وأسئلة له من كثير من إخوانه، عندما أشاع البعض أنه يكفر المجتمع ويصفه بالجاهلية.

حدث هذا ممن كانوا معه في قفص المحكمة أثناء التحقيقات، وفيمن التقى به داخل مستشفى السجن، بل إن قيادة الإخوان كلفت الأستاذ عمر التلمساني عندما كان سيلتقي به لسؤاله المباشر عن ذلك، وعاد وهو يحمل إجابة واضحة منه، بنفي الشهيد أنه يكفر أحدًا أو يقصد بجاهلية المجتمع تكفير الناس.

ب) إن كتاباته قبل طباعتها كان يقرأها كبار الإخوان؛ ومنهم الأستاذ الهضيبي، وأقروا ما فيها، ولم يجدوا فيها ما فهمه البعض واتهمه به.

جـ) لقد تواترت عشرات الشهادات ممن عاصروه وسألوه مباشرة، فأكد رأيه الواضح وأنه لا يكفر أحدًا، بل وصف من فهموا ذلك- أي ما فهموه من تكفير المجتمعات- أنهم لم يفهموا وأساءوا الاستخدام فقال: "لقد حملت كتبي وآرائي على حمار أعرج..".

هـ) شهادة الداعية زينب الغزالي، عندما سألته مباشرة عام 1964م عندما زارها في منزلها عن إشاعة أنه يكفر الناس؛ لأنهم لم يفهموا الإسلام، فاستغرب هذا القول، وبيّن أن فهمهم هذا خاطئ لما كتبه، وأنه سيوضح هذا ويرد عليه في الجزء الثاني من "المعالم".

س) وكان فضيلة الأستاذ الهضيبي يعتز دائمًا بسيد قطب، وكان يذكر أنه شهيد الإخوان.

والأستاذ الهضيبي كان رأيه في مسألة التكفير واضحًا حاسمًا، وقد فاصل الإخوان الذين انتهجوا هذا الفكر ورفض بقاءهم في الجماعة، ولم يتهاون في ذلك قط.

فهذا دليل واضح أن الشهيد كان موقفه واضحًا من مسألة التكفير، وأن من اعتنقوا ذلك بحجة ما فهموه من آراء، هم الذين أساءوا الفهم، وأن أصل الفكرة كانت عندهم مسبقًا، وكان ذلك في ظروف يتعرضون فيها للسجن والتعذيب.

فقد قرأ غيرهم من آلاف الإخوان هذه الكتابات ولم يفهموا منها هذا الفهم، في حين أن عدد الآخرين الذين أشاعوا ذلك على أصابع اليد من الإخوان.. وبالمثل نذكر، وما ذنب الإمام علي وابنيه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة (رضي الله عنهم) في نشأة المذاهب المنحرفة، والتي نسبت نفسها إليهم بعد ذلك؟

سلوكه العملي مع المجتمع

قد تواترت عشرات الشهادات من الإخوان الذين عايشوه، ومن غيرهم، بشأن سلوكه العملي مع المجتمع الذي ادعى البعض أنه يكفره كان الشهيد يعيش مع الناس بصدر رحب وسماحة فائقة ومودة وحب يشع من كلماته وقلبه.

في السجن كان هذا أسلوبه؛ حيث مع ضغوطه وطول سنواته يسقط أي قناع أو تمثيل.

تؤكد الشهادات على أسلوبه مع المساجين الجنائيين، وكيف كانوا يلجئون إليه في حل مشاكلهم حتى إن مأمور السجن الذي كان فيه كان يلجأ إليه في ذلك أو يحيلهم إليه.

وحتى مع سجانيه الذين آذوه، كان رقيقًا مهذبًا معهم، فهذا يطلب منه المساعدة المالية، وذاك يسأله النصيحة.

وحتى مع الذين اقتادوه لتنفيذ حكم الإعدام، لم يؤثر عنه كلمة نابية لأحد منهم أو معاملة فظة أو مقاطعة واستعلاء عليهم، بل قابلهم بابتسامة هادئة ونفس مطمئنة.

كان- رحمه الله- يصلي الصلوات والجمعة في مسجد السجن خلف الشيخ الأزهري المعين من قِبل الحكومة، ولا يجد غضاضة في ذلك، وكان الشيخ يدعو للحاكم بالبقاء.

فكيف يستقيم هذا مع ادعاء أنه يكفر؟

يحكي أحد الإخوان أنه زاره في بيته عام 1964م فوجد عنده زوجًا وزوجة، وكانت الزوجة تلبس لباسًا عاديًا ليس مطابقًا للحجاب، وكان يصلح بينهما ويساعد في حل مشكلتهما حتى لا يحدث طلاق.

وعندما سأله أحد الإخوان عن فتاة يتزوجها، لم يقل له لا تتزوج من هذا المجتمع الجاهلي.
وعندما تكلم معه بعض الإخوان عن التوتر الطائفي في صعيد مصر (والشهيد من مواليد إحدى قرى محافظة أسيوط) بين المسلمين والمسيحيين كان- رحمه الله- رافضًا لهذا التوتر، داعيًا ومؤكدًا وجوب حسن العلاقة معهم، رافضًا أي إيذاء لهم.

فهذه الشهادات واضحة تمامًا في تأكيد رفضه الانعزال أو الإحساس بالكبر واحتقار الآخرين مهما كان فسادهم.

صموده وثباته على دعوته

ومما تميَّز به- رحمه الله- الثبات الشديد على دعوته والوفاء ببيعته، وقد تعرَّض لصنوف التعذيب والضغط ومحاولات الاستدراج والإغواء، فرفض كل ذلك.

لقد عُرض عليه أكثر من مرة- وهو في السجن- أن يكتب ورقة اعتذار لجمال عبد الناصر؛ ليتم الإفراج عنه، فرفض ذلك، واستخدموا أخته للضغط عليه بعد صدور حكم الإعدام؛ لكي يفعل ذلك مقابل حياته، فرفض، بل وعند تنفيذ الحكم عُرض عليه ذلك فأبى، واعتبر- رحمه الله- أن تضحيته بنفسه هذه، أصغر وأقل مما يجب عليه تجاه دعوته.

عُرض عليه في عام 1964م بعد الإفراج الصحي- نتيجة وساطة الرئيس العراقي عبد السلام عارف- أن يعمل في العراق مستشارًا لوزارة التربية، فرفض مفضلاً البقاء في مصر حاملاً للدعوة، وهو يعرف ما سيناله أو يتعرض له.

ذهبوا إليه لكي يكتب مقالات في إحدى الصحف الرسمية، مقابل المال، وبحجة الرد على الشيوعيين؛ فرفض أن يستخدم من قبلهم لتحقيق أهداف لهم.

وبعد قيام الثورة عام 1952م، حاولوا استمالته تارة بالإغراء وتارة بالتهديد؛ لينحاز إليهم ضد قيادة الإخوان، فرفض ذلك بوضوح، ضاربًا المثل في الثبات والالتزام بالدعوة، رغم أن بعض الإخوان ممن كانوا أسبق منه استدرجوا وسقطوا في هذه "الزحلقة".

نقرأ كلماته في محاضر التحقيق في 1965م، فنجد النفسية القوية والهدوء الواثق، وكيف يحول صفحات التحقيق إلى توضيح لدعوته وتوجيه للأمة ولمن يعملون للإسلام، ويواجه الحكم عليه بابتسامة هادئة وبشهادة في سبيل الله تمنى أن ينالها.

كان الشهيد- رحمه الله- شديد الالتزام بمنهج الإخوان، منبهرًا بالإمام الشهيد، رغم أنه لم يلتق به، وكتب فيه مقالة عن عبقرية البناء، وكان شديد الاعتزاز والاحترام لقيادة الإخوان، متمثلة في مرشدهم الأستاذ الهضيبي يخاطبه ويذكره دائمًا بالأستاذ الوالد.

وقد استأذنه في توليه قيادة وتربية مجموعة الشباب عام 1965م، وغياب هذه المعلومة عن بعض الإخوان، (وقد أكدها فضيلة الأستاذ الهضيبي نفسه وغيره من الثقات من الإخوان)، جعلت هذا البعض يظن غير ذلك.

وقبل أن يساق الشهيد لتنفيذ حكم الإعدام فيه- وقد فهم ذلك- حتى طرق باب أحد الزنازين، وأبلغ الأخ فيها أن يبلغ الأستاذ الوالد أنه على العهد باقٍ، وأنه يجدد بيعته وأنه لم يكفر أحدًا (وكان هذا الأخ هو الأستاذ مأمون الهضيبي).

كان يقول لإخوانه داخل السجن، لقد اختط الإمام الشهيد حسن البنا نهرًا واسعًا وطريقًا واضحة للحركة والدعوة الإسلامية، وعلى كل من يأتي بعده أن يصب في ذلك النهر وأن يدعمه، لا أن يشتق أو يختط له مسارًا آخر.

رؤيته بالنسبة للإصلاح الجزئي

على المستوى الفردي كان- رحمه الله- يقوم بذلك من حل للمشاكل وإعانة للآخرين في المجتمع، بل ويشجع على ذلك.

أما بالنسبة للجماعة، فكان يرى ألا تشغل نفسها بتقديم برامج الإصلاح للمجتمع وتفاصيلها في رؤية الإسلام، أو ننشغل بالرد على من يسأل عن رأي الإسلام، وكيف يحل هذه المشاكل؛ لأنهم من وجهة نظره يسألون ليس للتطبيق وإنما للمجادلة، وحتى لا تضيع الجماعة وقتها؛ لأن الأولوية عندها في تفهيم الناس وتربيتهم على أصل العقيدة، ولأن المجتمع غير جاهز لتطبيق ما سيعرض عليه، وكان هذا الفهم عنده متأثرًا بأن أغلب الجماعة داخل السجن لسنوات طويلة ولا منفذ لديها بالمجتمع، والذي تحاول فيه الدولة إقصاءهم عنه.

وتعتبر هذه النقطة الفرعية في كلمات الشهيد هي التي اختلف فيها مع منهج الإمام البنا، ولو تغيرت الظروف التي أحاطت به أو راجعه أحد فيها لذهب إلى غير ذلك؛ حيث إن دعوة الإخوان تجمع بين رؤية الإصلاح الكلي الشامل، وبين منهجية الإصلاح الجزئي، وأنه رغم أن الحكومة لا تستجيب لمطالب الإصلاح وبرامجه المقدمة من الجماعة، إلا أنها ستواصل ذلك توضيحًا للإسلام، وإبلاغًا للدعوة، وإقامة للحجة، وتفاعلاً مع الأحداث والمواقف.

بشأن توليه القيادة وتوجيه مجموعة 65

هل كان قيامه- رحمه الله- بالإشراف على تربية وتنظيم وتوجيه شباب الدعوة في 65؛ يعتبر خطأً حركيًّا وخارجًا عن سياسة الجماعة، أو سبَّب لها ضررًا وانتكاسةً؟

إن من يقول هذا الكلام لم يفهم دعوة الإخوان، ولم يعرف قواعد الإسلام ومبادئه فمقياس الخطأ والصواب أو الضرر والفائدة لا يكون بالهوى الشخصي، وإنما بالرجوع لأحكام الشرع ومبادئ الدعوة إلى الله.

إن العمل والدعوة للإسلام في مناخ مناوئ له فريضة لازمة، وسيكون له تضحيات كالقابض على الجمر، وأن هذا هو واجب الدعاة وورثة الأنبياء مهما لاقوا من أذى.

فما قام به الشهيد ومن معه من شباب هو أداءٌ لواجب الدعوة، وللأهداف التي آمنوا بها وبايعوا عليها.

إن قبوله قيادة الشباب في هذه الفترة- وهو حديث الخروج من السجن؛ يعاني من الحالة الصحية وضيق المورد المالي- كي يربيهم على الإسلام، ويبعد بهم عن طريق العنف والانتقام- وقد أفادوا جميعًا بذلك- كان هذا يمثل قمة في الثبات والتضحية وكسرًا لحاجز الخوف.

كما أن حركتهم هذه- وإن لم تشمل جميع الإخوان- حيث كانت في بدايتها إلا أنها كانت في إطار المؤسسية وتحت علم قيادة الجماعة وموافقتها، وما شهادة بعض أفراد الجماعة بعكس ذلك، إما لعدم علمه أو لخلطه في الأمر بين منع القيادة أي تجمعات للشباب تنتهج منهج العنف، أو تسعى لرفع السلاح، وبين تأييدها للقيام بالتربية وحمل الدعوة.

كما أن قيام هذه الفئة المؤمنة وإقدامها على الحركة بالدعوة والتجميع والتربية، وأمامهم مناخ السجون والاعتقالات والتعذيب من نظام طاغٍ لا يعرف قانونًا، كان في ذاته يشكل انتصارًا معنويًّا للإيمان والعقيدة التي ارتفعت وتسامت فوق كل ذلك، وتجاوزت الخوف مما سيحدث لها من بطش.

كما أن هذه الحركة المباركة لشباب 65، كانت ردًّا عمليًّا على بطش النظام، وأنه لم يستطع أن يخضع الجماعة، أو يرعب أبناءها، أو يوقف مسار دعوتها، وكانت صوتًا معارضًا قويًّا لهذا النظام، في حين سكت الجميع وخضعوا له مما أحرق كبد النظام غيظًا، فكان بحق مفخرةً في تاريخ دعوة الإخوان المسلمين، ونذكر عندما ذهب أحد الإخوان للأستاذ الهضيبي وقتها، يشتكي من حركة هذا الشاب بالدعوة والتجمع؛ قال له: أو ليس قعودك عن الدعوة والعمل لها إضرارًا لها.

خاتمة

نعيد الإشارة إلى أن دعوة الإخوان ومنهجها وكذلك الشهيد سيد قطب وعطاؤه وفكره، ليست بحاجة إلى رد أو دفاع؛ ولكنها تذكرة ووقفة مع معاني الحق، ونحن لا نرفع أحدًا إلى مرتبة القداسة، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وميزان الأمر هو أحكام الشرع وقواعده.

لم يقصد الأستاذ سيد قطب بكتاباته أن يقدم مشروعًا مستقلاًّ أو موازيًا، وإنما كان ملتزمًا بالمشروع الإسلامي، والمنهج الدعوي الذي أرسى معالمه الإمام البنا، فقد ركز بأسلوبه على بعض المحاور خاصة في مجال تميز القيم والمفاهيم الإسلامية في مواجهة القيم الغربية؛ مما كان يناسب الظروف الضاغطة التي أحاطت بالدعوة في تلك الفترة وما زالت، فكان كما قال يصب بجهده وفكره في دعم هذا المشروع.

لم يكن الشهيد صاحب رؤية خاصة به أو تيار فكري مخالف لمنهج الإمام الشهيد العملي والفكري، بل كان ملتزمًا حريصًا على ذلك الانتماء وتلك البيعة، وبالتالي فإن إطلاق اسمه ونسبته لمجموعة من الأفكار والأطروحات تدور حول التكفير والانعزال والتشدد والعنف؛ لهو مخالف للحقيقة مجانب للصواب، واعتداء على فكر الشهيد- رحمه الله- لم يكن ليرضى به حيًّا أو ميتًا.

وإن ظهور لفظ "القطبيين" كان ضمن الحملة ضد التيار الإسلامي؛ لتشويه صورته، ووراءه دوافع أمنية، تحاول أن تزرع الخلل في صفوف الدعوة.

لقد شهدت كتابات الشهيد انتشارًا واسعًا، وتأثر بها كثير من أفراد وحركات التيار الإسلامي وحركات المقاومة ضد الاستعمار.

لهذا كان أعداء الإسلام حريصين أن يحدثوا الهزيمة النفسية، وترسيخ قيمهم الغربية داخل الشخصية المسلمة؛ ليتمكنوا من السيطرة عليها من داخلها، ثم السيطرة على أرض الواقع وميدان المعركة.

لقد وجدوا أن كتابات الشهيد تتميز بالرفض الشديد لهذه القيم التي يحملها المشروع الغربي والمفاصلة الكاملة معه، كما أن محاولتهم للقضاء على الإسلام المقاوم الذي يتصدى لهيمنتهم شملت أن يضربوا جذور هذا الفكر، وأن يضربوا معنى الجهاد، ويغيروا مدلوله لتضعف المقاومة وتخضع الشعوب لسلطانهم وسيطرتهم، إننا جميعًا يوم القيامة سنقف بين يدي الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ لتظهر الحقائق، ويحاسب كل فرد على موقفه وكلماته وعمله.

والله يهدي إلى سواء السبيل.

ــــــــــــــــــــــ

عضو مكتب الإرشاد


ليست هناك تعليقات: